ميكافيللي- الاستبداد ضرورة للإصلاح في الدول العربية المضطربة

المؤلف: صدقة يحيى فاضل08.28.2025
ميكافيللي- الاستبداد ضرورة للإصلاح في الدول العربية المضطربة

يرى المفكر السياسي الإيطالي المرموق نيكولو مكيافيلي (1469- 1527م) أن الحكم الاستبدادي، أو الديكتاتورية السياسية، يصبح أمراً بالغ الأهمية ولا مناص منه في ثلاث حالات جوهرية. أولاً، عند الشروع في تأسيس دولة من نقطة الصفر. ثانياً، لإنقاذ دولة تتهاوى وتقف على شفا الهاوية. وأخيراً، لإصلاح دولة يعمها الفساد المستشري. وقد أكد مكيافيلي هذه الرؤية في كتابه الشهير "الأمير" الذي نُشر عام 1515م، حيث حثّ أمير فلورنسا على تبني الاستبداد واتخاذ كافة التدابير الممكنة لتوحيد إيطاليا، بجميع أقاليمها وفئاتها المتنوعة، وبناء دولة إيطالية راسخة وقوية، تضاهي الدول الأوروبية العظمى الصاعدة آنذاك.

تلك كانت لبّ رسالة مكيافيلي في مؤلفه "الأمير" الذي يصبو إلى بناء دولة ذات نفوذ مهيب تسعى قيادتها جاهدة لتحقيق ذلك، معتنقة مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي غدا شعاره الخالد. يرى مكيافيلي أن السياسي المحنك، في سعيه لتحقيق غاياته، يجوز له اللجوء إلى أي وسيلة مهما كانت، طالما أن ذلك يعتبر ضرورياً لتحقيق الهدف المنشود، حتى وإن تعارضت تلك الوسيلة مع القيم الأخلاقية النبيلة السائدة. وبحيث ينتهز السياسي جميع الوسائل التي يراها كفيلة بتحقيق غاياته المنشودة دون أدنى تردد. هذه الجزئية تحديدا ًمن فكر مكيافيلي هي جوهر المبدأ الانتهازي الذي اشتهر به، حتى باتت "الميكافيلية" مرادفاً "للانتهزية" في نظر البعض.

غير أن مكيافيلي عاد ليحتفي بالديمقراطية (حكم الأغلبية) في كتابه اللاحق الذي صدر عام 1521م بعنوان "المطارحات"، مع التشديد على أن الديكتاتورية الاستبدادية لا تزال ضرورية في الحالات الثلاث المذكورة سلفاً. أما في حال استقرت الأوضاع وعادت الحياة إلى طبيعتها في الدولة، فإن الديمقراطية هي الخيار الأمثل والضمانة الحقيقية للاستقرار السياسي والازدهار الحضاري على المدى الطويل، وفقاً لرؤيته. إذن، لم يدعُ مكيافيلي إلى الحكم المطلق إلا في ظل ظروف محددة وواضحة.



قد يكون من المستحسن استحضار هذا الجانب من الفلسفة الميكافيلية (التي تحولت بعض جوانبها إلى نظريات علمية معتمدة) عند تحليل المشهد السياسي العام الراهن في بعض الدول العربية التي تعصف بها الاضطرابات (وتحديداً في سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها)، والتفكر ملياً في الحلول المتاحة لتجاوز هذا المأزق السياسي الخطير الذي تعانيه هذه الدول، والبحث عن الحل "الأمثل". فها هي القلاقل وعدم الاستقرار والتفكك والتدخلات الأجنبية المغرضة وغياب الأمن والفوضى العارمة قد حولت حياة شعوب هذه البلاد إلى جحيم لا يطاق.

في الغالب، لن نجد أفضل من وصفة مكيافيلي، لا سيما وأن الحالات الثلاث التي ذكرها تتجسد بوضوح في هذه الدول في الوقت الراهن، مما يفرض الحاجة الماسة لوجود "قادة" أقوياء ومستبدين (يحتكرون السلطة) من أجل تجاوز الأزمة التي تعصف بهذه الدول. تخيلوا معي أن ينهض قائد أو حزب وطني في كل دولة من هذه الدول، ويستولي على مقاليد الحكم، ويعيد الأمن والاستقرار إلى ربوع هذه الأوطان التي عانت الأمرّين منذ ما يسمى بـ "الربيع العربي" في عام 2011م. وتتضمن هذه النهضة تجاوز الخلافات الطائفية والمذهبية بشكل مؤقت، وذلك ريثما يستقر البلد وتنطلق العملية السياسية التي تضمن في نهاية المطاف حصول كل ذي حق على حقه، وفقاً لدستور جديد يحظى بقبول واسع.



دعونا نتأمل في الوضع في ليبيا كمثال ساطع على هذه الحالة التي نتحدث عنها. فقد ثار الشعب الليبي على الديكتاتور الفاسد معمر القذافي في 17 فبراير 2011م، مطالباً بحقوقه التي سلبها القذافي لأكثر من أربعة عقود. وبعد الإطاحة بهذا المستبد، غرقت ليبيا في بحر من الخلافات والاضطرابات ونيران الحرب الأهلية المستعرة. هنا تجلت الحاجة الماسة لمن يقتحم هذا المشهد ويحكم قبضته على السلطة بيد من حديد، ويمنع تفكك البلاد وتمزقها. ثم يشرع بعد ذلك مباشرة في قيادة بلاده نحو بر الأمان، وفقاً للإجراءات والخطوات السياسية الضرورية في هذه الحالة.

إذاً، يجب أن يكون هذا الديكتاتور الجديد (المنقذ) "مصلحاً" كي يذكره تاريخ بلاده بالخير والتقدير، لا أن يكون نسخة طبق الأصل لمعظم المستبدين الذين عرفهم العالم في الماضي والحاضر. إذ يتعين عليه أن يعيد الأمن والاستقرار وترسيخ المؤسسات في ليبيا، ثم يفسح المجال للشعب لاختيار السلطتين التنفيذية والتشريعية في حكومته، وفقاً للدستور المتفق عليه. أما إذا لم يكن صالحاً ومصلحاً، وتمسك بالسلطة عنوة، فإن الشعب الليبي، في هذه الحالة، يكون قد تخلص من ديكتاتور ليقع في براثن ديكتاتور آخر. وستعود إلى ليبيا حالة عدم الاستقرار السياسي المقنّع والظاهر على حد سواء. وسينشأ صراع جديد بين غالبية الشعب و"معمر قذافي" جديد، وغالباً ما ستندلع ثورة شعبية ضد المستبد لاحقاً، لتدخل ليبيا مرة أخرى في دوامة الفوضى المدمرة. لذلك، فإن اشتراط أن يكون الديكتاتور الجديد "مصلحاً" هو شرط جوهري وأساسي وحيوي في وضع ليبيا والدول التي تشبهها.

وكان من الممكن الاستفادة من هذه الرؤية وتطبيق هذا السيناريو مع تعديل بعض التفاصيل في كل من سوريا واليمن وغيرهما. هذا على الصعيد النظري. أما إذا لم يتوفر هذا النوع من الحكم بشكل مؤقت في الواقع، فقد ينتصر الشر ويطغى الجنون وتتفوق المصالح الشخصية والفئوية الضيقة. وبالتالي، ستسود الفوضى المدمرة وتسحق الشعوب، وهذا ما لا يرضاه المواطنون المخلصون، بل وكل ذي ضمير حي في العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة